فصل: تفسير الآيات رقم (28- 29)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***


تفسير الآية رقم ‏[‏22‏]‏

‏{‏وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏22‏)‏‏}‏

أفضت مجادلة الضعفاء وسادتهم في تغريرهم بالضلالة إلى نطق مصدر الضلالة وهو الشيطان؛ إما لأنهم بعد أن اعتذر إليهم كبراؤهم بالحرمان من الهدى علموا أن سبب إضلالهم هو الشيطان لأن نفي الاهتداء يرادفه الضلال، وإما لأن المستكبرين انتقلوا من الاعتذار للضعفاء إلى ملامة الشيطان الموسوس لهم ما أوجب ضلالهم، وكل ذلك بعلم يقع في نفوسهم كالوجدان‏.‏ على أن قوله‏:‏ ‏{‏فلا تلوموني‏}‏ يظهر منه أنه توجه إليه ملام صريح، ويحتمل أنه توقّعه فدفعه قبل وقوعه وأنه يتوجه إليه بطريقة التعريض، فجملة ‏{‏وقال الشيطان‏}‏ عطف على جملة ‏{‏فقال الضعفاء‏.‏

والمقصود من وصف هذا الموقف إثارة بغض الشيطان في نفوس أهل الكفر ليأخذوا حذرهم بدفاع وسواسه لأن هذا الخطاب الذي يخاطبهم به الشيطان مليء بإضماره الشر لا لهم فيما وعدهم في الدنيا مما شأنه أن يستفز غضبهم من كيده لهم وسخريته بهم، فيورثهم ذلك كراهية له وسوء ظنهم بما يتوقعون إتيانه إليهم من قِبَله‏.‏ وذلك أصل عظيم في الموعظة والتربية‏.‏

ومعنى قضى الأمر‏}‏ تُمّم الشأن، أي إذن الله وحكمه‏.‏ ومعنى إتمامه‏:‏ ظهوره، وهو أمره تعالى بتمييز أهل الضلالة وأهل الهداية، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وامتازوا اليوم أيها المجرمون‏}‏ ‏[‏سورة يس‏:‏ 59‏]‏، وذلك بتوجيه كل فريق إلى مقره الذي استحقه بعمله، فيتصدى الشيطان للتخفيف عن الملام عن نفسه بتشريك الذين أضلهم معه في تبعة ضلالهم، وقد أنطقه الله بذلك لإعلان الحق، وشهادة عليهم بأن لهم كسباً في اختيار الانصياع إلى دعوة الضلال دون دعوة الحق‏.‏ فهذا شبيه شهادة ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون وقولها لهم‏:‏ أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء‏}‏ إظهاراً للحقيقة وتسجيلاً على أهل الضلالة وقمعاً لسفسطتهم‏.‏

وأخبر الله بها الناس استقصاء في الإبلاغ ليحيط الناس علماً بكل ما سيحل بهم، وإيقاظاً لهم ليتأملوا الحقائق الخفية فتصبح بينة واضحة‏.‏ فقول الشيطان ‏{‏فلا تلوموني ولوموا أنفسكم‏}‏ إبطال لإفراده باللوم أو لابتداء توجيه الملام إليه في حين أنهم أجدر باللوم أو بابتداء توجيهه‏.‏

وأما وقع كلام الشيطان من نفوس الذين خاطبهم فهو موقع الحسرة من نفوسهم زيادة في عذاب النفس‏.‏

وإضافة ‏{‏وعد‏}‏ إلى ‏{‏الحق‏}‏ من إضافة الموصوف إلى الصفة مبالغة في الاتصاف، أي الوعد الحق الذي لانقض له‏.‏

والحق‏:‏ هنا بمعنى الصدق والوفاء بالموعود به‏.‏ وضده‏:‏ الإخلاف، ولذلك قال‏:‏ ‏{‏ووعدتكم فأخلفتكم‏}‏ ‏[‏سورة إبراهيم‏:‏ 22‏]‏، أي كذبتُ موعدي‏.‏ وشمل وعد الحق جميع ما وعدهم الله بالقرآن على لسان رسوله عليه الصلاة والسلام‏.‏ وشمل الخُلْف جميعَ ما كان يعدهم الشيطان على لسان أوليائه وما يعدهم إلا غرورا‏.‏

والسلطان‏:‏ اسم مصدر تسلط عليه، أي غلبه وقهره، أي لم أكن مجبراً لكم على اتباعي فيما أمرتكم‏.‏

والاستثناء في إلا أن دعوتكم‏}‏ استثناء منقطع لأن ما بعد حرف الاستثناء ليس من جنس ما قبله‏.‏ فالمعنى‏:‏ لكني دعوتكم فاستجبتم لي‏.‏

وتفرع على ذلك ‏{‏فلا تلوموني ولوموا أنفسكم‏}‏‏.‏ والمقصود‏:‏ لوموا أنفسكم، أي إذ قبلتم إشارتي ودعوتي‏.‏ وقد تقدم بيانه صدْرَ الكلام على الآية‏.‏

ومجموع الجملتين يفيد معنى القصر، كأنه قال‏:‏ فلا تلوموا إلاّ أنفسكم، وهو في معنى قصر قلب بالنسبة إلى إفراده باللوم وحقهم التشريك فقلب اعتقادهم إفراده دون اعتبار الشركة، وهذا من نادر معاني القصر الإضافي، وهو مبني على اعتبار أجدر الطرفين بالرد، وهو طرف اعتقاد العكس بحيث صار التشريك كالملغى لأن الحظ الأوفر لأحد الشريكين‏.‏

وجملة ‏{‏ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي‏}‏، بيان لجملة النهي عن لَومه لأن لومه فيه تعريض بأنهم يتطلبون منه حيلة لنجاتهم، فنفي ذلك عن نفسه بعد أن نهاهم عن أن يلوموه‏.‏

والإصراخ‏:‏ الإغاثة، اشتق من الصُراخ لأن المستغيث يصرخ بأعلى صوته، فقيل‏:‏ أصرخه، إذا أجاب صُراخه، كما قالوا‏:‏ أعتبه، إذا قبل استعتابه‏.‏ وأما عطف ‏{‏وما أنتم بمصرخي‏}‏ فالمقصود منه استقصاء عدم غناء أحدهما عن الآخر‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏بِمُصرِخيَّ‏}‏ بفتح التحتية مشددةً‏.‏ وأصله بمصرخِييَ بياءين أولاهما ياء جمع المذكر المجرور، وثانيتهما ياء المتكلم، وحقها السكون فلما التقت الياءان ساكنتين وقع التخلص من التقاء الساكنين بالفتحة لخفة الفتحة‏.‏

وقرأ حمزة وخلَف «بِمُصرِخيِّ» بكسر الياء تخلصاً من التقاء الساكنين بالكسرة لأن الكسر هو أصل التخلص من التقاء الساكنين‏.‏ قال الفراء‏:‏ تحريك الياء بالكسر لأنه الأصل في التخلص من التقاء الساكنين، إلا أن كسر ياء المتكلم في مثله نادر‏.‏ وأنشد في تنظير هذا التخلص بالكسر قول الأغلب العِجْلي‏:‏

قال لها هل لككِ يا تَا فيَّ *** قالت له‏:‏ ما أنتَ بالمرضيِّ

أراد هل لككِ فيّ يا هذه‏.‏ وقال أبو علي الفارسي‏:‏ زعم قطرب أنها لغة بني يربوع‏.‏ وعن أبي عمرو بن العلاء أنه أجاز الكسر‏.‏ واتفق الجميع على أن التخلص بالفتحة في مثله أشهر من التخلص بالكسرة وإن كان التخلص بالكسرة هو القياس، وقد أثبته سند قراءة حمزة‏.‏ وقد تحامل عليه الزجاج وتبعه الزمخشري وسبقهما في ذلك أبو عُبيد والأخفش بن سعيد وابن النحاس ولم يطلع الزجاج والزمخشري على نسبة ذلك البيت للأغلب العِجلي‏.‏

والذي يظهر لي أن هذه القراءة قرأ بها بنو يَربوع من تميم، وبنو عِجل بن لُجيم من بكر بن وائل، فقرأوا بلهجتهم أخذاً بالرخصة للقبائل أن يقرأوا القرآن بلهجاتهم وهي الرخصة التي أشار إليها قول النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرأوا ما تيسر منه ‏"‏ كما تقدم في المقدمة السادسة من مقدمات هذا التفسير، ثم نسخت تلك الرخصة بقراءة النبي صلى الله عليه وسلم في الأعوام الأخيرة من حياته المباركة ولم يثبت مما ينسخها في هذه الآية‏.‏

واستقر الأمر على قبول كل قراءة صح سندها ووافقت وجهاً في العربية ولم تخالف رسم المصحف الإمام‏.‏ وهذه الشروط متوفرة في قراءة حمزة هذه كما علمت آنفاً فقصارى أمرها أنها تتنزل منزلة ما ينطق به أحد فصحاء العرب على لغة بعض قبائلها بحيث لو قرئ بها في الصلاة لصحت عند مالك وأصحابه‏.‏

وجملة ‏{‏إنى كفرت بما أشركتمون من قبل‏}‏ استئنافُ تَنَصُّل آخر من تبعات عبادتهم إياه قصد منه دفع زيادة العذاب عنه بإظهار الخضوع لله تعالى‏.‏ وأراد بقوله‏:‏ ‏{‏كفرتُ‏}‏ شدة التبري من إشراكهم إياه في العبادة فإن أراد من مضي ‏{‏كفرت‏}‏ مضي الأزمنة كلها، أي كنت غير راضضٍ بإشراككم إياي فهو كذب منه أظهر به التذلل؛ وإن كان مراده من المضي إنشاء عدم الرضى بإشراكهم إياه فهو ندامة بمنزلة التوبة حيث لا يقبل متاب‏.‏ و‏{‏من قبل‏}‏ على التقديرين متعلق ب ‏{‏أشركتمون‏}‏‏.‏

والإشراك الذي كفر به إشراكهم إياه في العبادة بأن عبدوه مع الله لأن من المشركين من يعبدون الشياطين والجن، فهؤلاء يعبدون جنس الشيطان مباشرة، ومنهم من يعبدون الأصنام فهم يعبدون الشياطين بواسطة عبادة آلهته‏.‏

وجملة ‏{‏إن الظالمين لهم عذاب أليم‏}‏ من الكلام المحكي عن الشيطان‏.‏ وهي في موقع التعليل لما تقدم من قوله‏:‏ ‏{‏ما أنا بمصرخكم‏}‏، أي لأنه لا يدفع عنكم العذاب دَافع فهو واقع بكم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏23‏]‏

‏{‏وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ ‏(‏23‏)‏‏}‏

عطف على جملة ‏{‏وبرزوا لله جميعاً‏}‏، وهو انتقال لوصف حال المؤمنين يومئذٍ بمناسبة ذكر حال المشركين لأن حال المؤمنين يومئذٍ من جملة الأحوال المقصودة بالوصف إظهاراً لتفاوت الأحوال، فلم يدخل المؤمنون يومئذٍ في المنازعة والمجادلة تنزيهاً لهم عن الخوض في تلك الغمرة، مع التنبيه على أنهم حينئذٍ في سلامة ودعة‏.‏

ويجوز جعل الواو للحال، أي برزوا وقال الضعفاء وقال الكبراء وقال الشيطان إلخ وقد أدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات، فيكون إشارة إلى أنهم فازوا بنزل الكرامة من أول وهلة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏بإذن ربهم‏}‏ إشارة إلى العناية والاهتمام، فهو إذن أخص من أمر القضاء العام‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏تحيتهم فيها سلام تقدم نظيره في أول سورة يونس‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏24- 26‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ ‏(‏24‏)‏ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ‏(‏25‏)‏ وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ ‏(‏26‏)‏‏}‏

استئناف ابتدائي اقتضته مناسبة ما حكي عن أحوال أهل الضلالة وأحوال أهل الهداية ابتداء من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وبرزوا لله جميعاً إلى قوله تحيتهم فيها سلام‏}‏، فضرب الله مثلاً لكلمة الإيمان وكلمة الشرك‏.‏ فقوله‏:‏ ‏{‏ألم تر كيف ضرب الله مثلاً إيقاظ للذهن ليترقب ما يرد بعد هذا الكلام، وذلك مثل قولهم‏:‏ ألم تعلم‏.‏ ولم يكن هذا المثَل مما سبق ضربه قبل نزول الآية بل الآية هي التي جاءت به، فالكلام تشويق إلى علم هذا المثل‏.‏ وصوغ التشويق إليه في صيغة الزمن الماضي الدال عليها حرف لَمْ‏}‏ التي هي لنفي الفعل في الزمن الماضي والدالّ عليها فعل ‏{‏ضرب‏}‏ بصيغة الماضي لقصد الزيادة في التشويق لمعرفة هذا المثل وما مثل به‏.‏

والاستفهام في ‏{‏ألم تر‏}‏ إنكاري، نُزل المخاطب منزلة من لم يعلم فأنكر عليه عدم العلم، أو هو مستعمل في التعجيب من عدم العلم بذلك مع أنه مما تتوفر الدواعي على علمه، أو هو للتقرير، ومثله في التقرير كثير، وهو كناية عن التحريض على العلم بذلك‏.‏

والخطاب لكل من يصلح للخطاب‏.‏ والرؤية علمية معلّق فعلها عن العمل بما وليها من الاستفهام ب ‏{‏كيف‏}‏‏.‏ وإيثار ‏{‏كيف‏}‏ هنا للدلالة على أن حالة ضرب هذا المثل ذات كيفية عجيبة من بلاغته وانطباقه‏.‏

وتقدم المثَل في قوله‏:‏ ‏{‏مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏17‏)‏‏.‏

وضَرْب المثل‏:‏ نَظْم تركيبه الدال على تشبيه الحالة‏.‏ وتقدم عند قوله‏:‏ ‏{‏أن يضرب مثلاً ما‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏26‏)‏‏.‏

وإسناد ضرب‏}‏ إلى اسم الجلالة لأن الله أوحى به إلى رسوله عليه الصلاة والسلام‏.‏

والمثَل لما كان معنى متضمناً عدة أشياء صح الاقتصار في تعليق فعل ‏{‏ضرب‏}‏ به على وجه إجمال يفسره قوله‏:‏ ‏{‏كلمة طيبة كشجرة‏}‏ إلى آخره، فانتصب ‏{‏كلمة‏}‏ على البدلية من ‏{‏مثلاً‏}‏ بدلَ مفصّل من مجمل، لأن المثل يتعلق بها لما تدل عليه الإضافة في نظيره في قوله‏:‏ ‏{‏ومثل كلمة خبيثة‏}‏‏.‏

والكلمة الطيبة قيل‏:‏ هي كلمة الإسلام، وهي‏:‏ شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله والكلمة الخبيثة‏:‏ كلمة الشرك‏.‏

والطيبة‏:‏ النافعة‏.‏ استعير الطيب للنفع لحُسن وقعه في النفوس كوقع الروائح الذكية‏.‏ وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وجرين بهم بريح طيبة‏}‏ في سورة يونس ‏(‏22‏)‏‏.‏

والفَرع‏:‏ ما امتد من الشيء وعَلا، مشتق من الافتراع وهو الاعتلاء‏.‏ وفرع الشجرة غصنها، وأصل الشجرة‏:‏ جذرها‏.‏

والسماء مستعمل في الارتفاع، وذلك مما يزيد الشجرة بهجة وحسن منظر‏.‏

والأُكْل بضم الهمزة المأكول، وإضافته إلى ضمير الشجرة على معنى اللام‏.‏ وتقدم عند قوله‏:‏ ‏{‏ونفضل بعضها على بعض في الأكل‏}‏ في سورة الرعد ‏(‏4‏)‏‏.‏

فالمشبّه هو الهيئة الحاصلة من البهجة في الحس والفرح في النفس، وازدياد أصول النفع باكتساب المنافع المتتالية بهيئة رُسوخ الأصل، وجمال المنظر، ونماء أغصان الأشجار‏.‏

ووفرة الثِمار، ومتعة أكلها‏.‏ وكل جزء من أجزاء إحدى الهيئتين يقابله الجزء الآخر من الهيئة الأخرى، وذلك أكمل أحوال التمثيل أن يكون قابلاً لجمع التشبيه وتفريقه‏.‏

وكذلك القول في تمثيل حال الكلمة الخبيثة بالشجرة الخبيثة على الضد بجميع الصفات الماضية من اضطراب الاعتقاد، وضيق الصدر، وكدر التفكير، والضر المتعاقب‏.‏ وقد اختصر فيها التمثيل اختصاراً اكتفاءً بالمضاد، فانتفت عنها سائر المنافع للكلمة الطيبة‏.‏

وفي جامع الترمذي‏}‏ عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «مثل كلمة طيّبة كشجرة طيّبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها» قال‏:‏ هي النخلة، ‏{‏ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار‏}‏ قال‏:‏ هي الحَنْظَل‏.‏

وجملة ‏{‏اجتثت من فوق الأرض‏}‏ صفة ل ‏{‏شجرة خبيثة‏}‏ لأن الناس لا يتركونها تلتف على الأشجار فتقتلها‏.‏ والاجتثاث‏:‏ قطع الشيء كلّه، مشتق من الجُثة وهي الذات‏.‏ و‏{‏من فوق الأرض‏}‏ تصوير ل ‏{‏اجتثت‏}‏‏.‏ وهذا مقابل قوله في صفة الشجرة الطيبة ‏{‏أصلها ثابت وفرعها في السماء‏.‏

وجملة ما لها من قرار‏}‏ تأكيد لمعنى الاجتثاث لأن الاجتثاث من انعدام القرار‏.‏

والأظهر أن المراد بالكلمة الطيّبة القرآن وإرشاده، وبالكلمة الخبيثة تعاليم أهل الشرك وعقائدهم، ف ‏(‏الكلمة‏)‏ في الموضعين مطلقة على القول والكلام، كما دل عليه قوله‏:‏ ‏{‏يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت‏}‏‏.‏ والمقصود مَعَ التمثيل إظهارُ المقابلة بين الحالين إلا أن الغرض في هذا المقام بتمثيل كل حالة على حدة بخلاف ما يأتي عند قوله تعالى في سورة النحل ‏{‏ضرب الله مثلا عبداً مملوكا إلى قوله ومن رزقناه منا رزقاً حسناً، فانظر بيانه هنالك‏.‏

وجملة ويضرب الله الأمثال للناس‏}‏ معترضة بين الجملتين المتعاطفتين‏.‏ والواو واو الاعتراض‏.‏ ومعنى ‏(‏لعل‏)‏ رجاء تذكرهم، أي تهيئة التذكر لهم، وقد مضت نظائرها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏27‏]‏

‏{‏يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ ‏(‏27‏)‏‏}‏

جملة مستأنفة استئنافاً بيانياً ناشئاً عما أثاره تمثيل الكلمة الطيبة بالشجرة الثابتة الأصل بأن يسأل عن الثبات المشبه به‏:‏ ما هو أثره في الحالة المشبهة فيجاب بأن ذلك الثبات ظهر في قلوب أصحاب الحالة المشبهة وهم الذين آمنوا إذ ثبتوا على الدين ولم يتزعزعوا فيه لأنهم استثمروا من شجرة أصلها ثابت‏.‏

والقول‏:‏ الكلام‏.‏ والثابت الصادق الذي لا شك فيه‏.‏ والمراد به أقوال القرآن لأنها صادقة المعاني واضحة الدليل، فالتعريف في ‏{‏القول‏}‏ لاستغراق الأقوال الثابتة‏.‏ والباء في ‏{‏بالقول‏}‏ للسببية‏.‏

ومعنى تثبيت الذين آمنوا بها أن الله يسر لهم فيهم الأقوال الإلهية على وجهها وإدراك دلائلها حتى اطمأنت إليها قلوبهم ولم يخامرهم فيها شك فأصبحوا ثابتين في إيمانهم غير مزعزعين وعاملين بها غير مترددين‏.‏

وذلك في الحياة الدنيا ظاهر، وأما في الآخرة فبإلفائهم الأحوال على نحو مما علموه في الدنيا، فلم تعترهم ندامة ولا لهف‏.‏ ويكون ذلك بمظاهر كثيرة يَظهر فيها ثباتهم بالحق قولاً وانسياقاً، وتظهر فيها فتنة غير المؤمنين في الأحوال كلها‏.‏

وتفسير ذلك بمقابلته بقوله‏:‏ ‏{‏ويضل الله الظالمين‏}‏، أي المشركين، أي يجعلهم في حيرة وعَماية في الدنيا وفي الآخرة‏.‏ والضلال‏:‏ اضطراب وارتباك، فهو الأثر المناسب لسببه، أعني الكلمة التي اجتثت من فوق الأرض كما دلت عليه المقابلة‏.‏

والظالمون‏:‏ المشركون، قال تعالى‏:‏ ‏{‏إن الشرك لظلم عظيم‏}‏ ‏[‏سورة لقمان‏:‏ 13‏]‏‏.‏

ومن مظاهر هذا التثبيت فيهما ما ورد من وصف فتنة سؤال القبر‏.‏ روى البخاري والترمذي عن البَرَاء بن عازب أن رسول الله قال‏:‏ المسلم إذا سئل في القبر يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فذلك قوله تعالى‏:‏ يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة‏}‏‏.‏

وجملة ‏{‏ويفعل الله ما يشاء‏}‏ كالتذليل لما قبلها‏.‏ وتحت إبهام ‏{‏ما يشاء‏}‏ وعمومه مطاوٍ كثيرة من ارتباط ذلك بمراتب النفوس، وصفاء النيات في تطلب الإرشاد، وتربية ذلك في النفوس بنمائه في الخير والشر حتى تبلغ بذور تيْنك الشجرتين منتهى أمدهما من ارتفاع في السماء واجتثاث من فوق الأرض المعبر عنها بالتثبيت والإضلال‏.‏ وفي كل تلك الأحوال مراتب ودرجات لا تبلغ عقول البشر تفصيلها‏.‏

وإظهار اسم الجلالة في ‏{‏ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء‏}‏ لِقصد أن تكون كل جملة من الجمل الثلاث مستقلة بدلالتها حتى تسير مسير المثَل‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏28- 29‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ ‏(‏28‏)‏ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ ‏(‏29‏)‏‏}‏

أعقب تمثيل الدينين ببيان آثارهما في أصحابهما‏.‏ وابتُدئ بذكر أحوال المشركين لأنها أعجب والعبرة بها أولى والحذر منها مقدّم على التحلي بضدها، ثم أعقب بذكر أحوال المؤمنين بقوله‏:‏ ‏{‏قل لعبادي الذين آمنوا‏}‏ الخ‏.‏

والاستفهام مستعمل في التشويق إلى رؤية ذلك‏.‏

والرؤية هنا بصرية لأن متعلقها مما يرى، ولأن تعدية فعلها ب ‏{‏إلى‏}‏ يرجح ذلك، كما في قوله‏:‏ ‏{‏ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه‏}‏ ‏[‏سورة البقرة‏:‏ 258‏]‏‏.‏

وقد نزل المخاطب منزلة من لم ير‏.‏ والخطاب لمن يصح منه النظر إلى حال هؤلاء الذين بدلوا نعمة الله مع وضوح حالهم‏.‏

والكفر‏:‏ كفران النعمة، وهو ضد الشكر، والإشراك بالله من كفران نعمته‏.‏

وفي قوله‏:‏ بدلوا نعمة الله كفراً‏}‏ محسن الاحتباك‏.‏ وتقدير الكلام‏:‏ بدلوا نعمة الله وشُكرَها كفراً بها ونقمةً منه، كما دل عليه قوله‏:‏ ‏{‏وأحلوا قومهم دار البوار‏}‏ الخ‏.‏

واستعير التبديل لوضع الشيء في الموضع الذي يستحقه شيء آخر، لأنه يشبه تبديل الذات بالذات‏.‏

والذين بدلوا هذا التبديل فريق معرفون، بقرينة قوله‏:‏ ‏{‏ألم تر إلى الذين‏}‏، وهم الذين تلقوا الكلمة الخبيثة من الشيطان، أي كلمة الشرك، وهم الذين استكبروا من مشركي أهل مكة فكابروا دعوة الإسلام وكذّبوا النبي صلى الله عليه وسلم وشرّدوا من استطاعوا، وتسببوا في إحلال قومهم دار البوار، فإسناد فعل ‏{‏أحلوا‏}‏ إليهم على طريقة المجاز العقلي‏.‏

ونعمة الله التي بدلوها هي نعمة أن بوّأهُم حرمه، وأمنهم في سفرهم وإقامتهم، وجعل أفئدة الناس تهوي إليهم، وسلمهم مما أصاب غيرهم من الحروب والغارات والعدوان، فكفروا بمن وهبهم هذه النعم وعبدوا الحجارة‏.‏ ثم أنعم الله عليهم بأن بعث فيهم أفضل أنبيائه صلى الله عليهم جميعاً وهداهم إلى الحق، وهيّأ لهم أسباب السيادة والنجاة في الدنيا والآخرة، فبدّلو شكر ذلك بالكفر به، فنعمة الله الكبرى هي رسالة محمد صلى الله عليه وسلم ودعوة إبراهيم وبنيّته عليهم السلام‏.‏

وقومهم‏:‏ هم الذين اتبعوهم في ملازمة الكفر حتى ماتوا كفاراً، فهم أحق بأن يضافوا إليهم‏.‏

والبوار‏:‏ الهلاك والخسران‏.‏ وداره‏:‏ محله الذي وقع فيه‏.‏

والإحلال بها الإنزال فيها، والمراد بالإحلال التسبب فيه، أي كانوا سبباً لحلول قومهم بدار البوار، وهي جهنم في الآخرة، ومواقع القتل والخزي في الدنيا مثل‏:‏ موقع بدر، فيجوز أن يكون ‏{‏دار البوار‏}‏ جهنم، وبه فسر علي وابن عبّاس وكثير من العلماء، ويجوز أن تكون أرض بدر وهو رواية عن علي وعن ابن عباس‏.‏

واستعمال صيغة المضي في ‏{‏أحلوا‏}‏ لقصد التحقيق لأن الإحلال متأخر زمنه فإن السورة مكية‏.‏

والمراد ب ‏{‏الذين بدلوا نعمة الله كفراً وأحلوا قومهم دار البوار‏}‏ صناديد المشركين من قريش، فعلى تفسير ‏{‏دار البوار‏}‏ بدار البوار في الآخرة يكون قوله ‏{‏جهنم‏}‏ بدلاً من ‏{‏دار البوار‏}‏ وجملة ‏{‏يصلونها‏}‏ حالاً من ‏{‏جهنم‏}‏، فتخص ‏{‏دار البوار‏}‏ بأعظم أفرادها وهو النار، ويجعل ذلك من ذكر بعض الأفراد لأهميته‏.‏

وعلى تفسير ‏{‏دار البوار‏}‏ بأرض بدر يكون قوله‏:‏ ‏{‏جهنم يصلونها‏}‏ جملة مستأنفة استئنافاً ابتدائياً‏.‏ وانتصابُ جهنم على أنه مفعول لفعل محذوف يدل عليه فعل ‏{‏يصلونها‏}‏ على طريقة الاشتغال‏.‏

وما يروون عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعن عليّ كرّم الله وجهه أن ‏{‏الذين بدلوا نعمة الله كفراً‏}‏ هم الأفجران من قريش‏:‏ بَنُو أمية وبنو المغيرة بن مخزوم، قال‏:‏ فأما بنو أمية فمُتّعوا إلى حين وأما بنو المغيرة فكفيتموهم يوم بدر‏.‏ فلا أحسبه إلا من وضع بعض المغرضين المضادين لبني أمية‏.‏ وفي روايات عن عليّ كرّم الله وجهه أنه قال‏:‏ هم كفار قريش، ولا يريد عمر ولا علي رضي الله عنهما من أسلموا من بني أمية فإن ذلك لا يقوله مسلم فاحذروا الأفهام الخطئة‏.‏ وكذا ما روي عن ابن عباس‏:‏ أنهم جَبلة بن الأيهم ومن اتبعه من العرب الذين تنصروا في زمن عُمر وحلّوا ببلاد الروم، فإذا صح عنه فكلامه على معنى التنظير والتمثيل وإلا فكيف يكون هو المراد من الآية وإنما حدث ذلك في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه‏.‏

وجملة ‏{‏وبئس القرار‏}‏ عطف على جملة ‏{‏يصلونها‏}‏، أو حال من ‏{‏جهنم‏}‏‏.‏ والتقدير‏:‏ وبئس القرار هي‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏30‏]‏

‏{‏وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ ‏(‏30‏)‏‏}‏

عطف على ‏{‏بدلوا‏}‏ و‏{‏أحلوا‏}‏، فالضمير راجع إلى ‏{‏الذين‏}‏ وهم أئمة الشرك‏.‏ والجعل يصدق باختراع ذلك ما فعل عمرو بن لُحي وهو من خُزاعة‏.‏ ويصدق بتقرير ذلك ونشره والاحتجاج له، مثل وضع أهل مكة الأصنام في الكعبة ووضع هُبل على سطحها‏.‏

والأنداد‏:‏ جمع نِدّ بكسر النون، وهو المماثل في مجد ورفعة، وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلا تجعلوا لله أنداداً‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏22‏)‏‏.‏

وقرأ الجمهور ليضلوا‏}‏ بضم الياء التحتية من أضل غيره إذا جعله ضالاً، فجعل الإضلال علة لجعلهم لله أنداداً، وإن كانوا لم يقصدوا تضليل الناس وإنما قصدوا مقاصد هي مساوية للتضليل لأنها أوقعت الناس في الضلال، فعُبر على مساوي التضليل بالتضليل لأنه آيل إليه وإن لم يقصدوه، فكأنه قيل‏:‏ للضلال عن سبيله، تشنيعاً عليهم بغاية فعلهم وهم ما أضلوا إلا وقد ضَلّوا، فعلم أنهم ضلوا وأضلوا، وذلك إيجاز‏.‏

وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، ورُويْس عن يعقوب ‏{‏لِيَضلّو‏}‏ بفتح الياء والمعنى‏:‏ ليستمر ضلالهم فإنهم حين جعلوا الأنداد كان ضلالهم حاصلاً في زمن الحال‏.‏ ومعنى لام التعليل أن تكون مستقبلة لأنها بتقدير ‏{‏أن‏}‏ المصدرية بعد لام التعليل‏.‏

ويعلم أنهم أضلوا الناس من قوله‏:‏ ‏{‏وأحلوا قومهم دار البوار‏}‏‏.‏

وسبيل الله‏:‏ كل عمل يجري على ما يرضي الله‏.‏ شبه العمل بالطريق الموصلة إلى المحلة، وقد تقدم غير مرة‏.‏

وجملة ‏{‏قل تمتعوا‏}‏ مستأنفة استئنافاً بيانياً لأن المخاطب ب ‏{‏ألم تر إلى الذين بدلوا‏}‏ إذا علِم هذه الأحوال يتساءل عن الجزاء المناسب لجرمهم وكيف تركهم الله يرفلون في النعيم، فأجيب بأنهم يصيرون إلى النار، أي يموتون فيصيرون إلى العذاب‏.‏

وأُمر بأن يبلغهم ذلك لأنهم كانوا يزدهون بأنهم في تنعم وسيادة، وهذا كقوله‏:‏ ‏{‏لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد‏}‏ في سورة آل عمران ‏(‏196، 197‏)‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏31‏]‏

‏{‏قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ ‏(‏31‏)‏‏}‏

استئناف نشأ عن ذكر حال الفريق الذي حقت عليه الكلمة الخبيثة بذكر حال مقابله، وهو الفريق الذي حقت عليه الكلمة الطيبة‏.‏ فلما ابتدئ بالفريق الأول لقصد الموعظة والتخلي ثُنّي بالفريق الثاني على طريقة الاعتراض بين أغراض الكلام كما سيأتي في الآية عقبها‏.‏

ونظيره قوله تعالى في سورة الإسراء‏:‏ ‏{‏وقالوا أإذا كنا عظاماً ورفاتاً إنا لمبعوثون خلقاً جديداً قل كونوا حجارة إلى أن قال وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن‏}‏ ‏[‏سورة الإسراء‏:‏ 50، 52‏]‏‏.‏

ولما كانوا متحلين بالكمال صِيغَ الحديث عنهم بعنوان الوصف بالإيمان، وبصيغة الأمر بما هم فيه من صلاة وإنفاق لقصد الدوام على ذلك، فحصلت بذلك مناسبة وقع هذه الآية بعد التي قبلها لمناسبة تضاد الحالين‏.‏

ولما كان المؤمنون يقيمون الصلاة من قبل وينفقون من قبل تعين أن المراد الاستزادة من ذلك، ولذلك اختير المضارع مع تقدير لام الأمر دون صيغة فعل الأمر لأن المضارع دال على التجدد، فهو مع لام الأمر يلاقي حال المتلبس بالفعل الذي يؤمر به بخلاف صيغة ‏(‏افعل‏)‏ فإن أصلها طلب إيجاد الفعل المأمور به من لم يكن ملتبساً به، فأصل يقيموا الصلاة‏}‏ ليقيموا، فحذفت لام الأمر تخفيفاً‏.‏

وهذه هي نكتة ورود مثل هذا التركيب في مواضع وروده، كما في هذه الآية وفي قوله ‏{‏وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن‏}‏ في سورة الإسراء ‏(‏52‏)‏، أي قل لهم ليقيموا وليقولوا، فحكي بالمعنى‏.‏

وعندي‏:‏ أن منه قوله تعالى‏:‏ ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون في سورة الحجر ‏(‏3‏)‏، أي ذرهم ليأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل‏.‏ فهو أمر مستعمل في الإملاء والتهديد، ولذلك نوقن بأن الأفعال هذه معمولة للام أمر محذوفة‏.‏ وهذا قول الكسائي إذا وقع الفعل المجزوم بلام الأمر محذوفة بعد تقدم فعل قل‏}‏، كما في «مغني اللبيب» ووافقه ابن مالك في «شرح الكافية»‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ جزم الفعل المضارع في جواب الأمر ب ‏{‏قل‏}‏ على تقدير فعل محذوف هو المقول دل عليه ما بعده‏.‏ والتقدير‏:‏ قل لعبادي أقيموا يقيموا وَأنفقوا ينفقوا‏.‏ وقال الكسائي وابن مالك إن ذلك خاص بما يقع بعد الأمر بالقول كما في هذه الآية، وفاتهم نحو آية ‏{‏ذرهم يأكلوا ويتمتعوا‏.‏

وزيادة مما رزقناهم‏}‏ للتذكير بالنعمة تحريضاً على الإنفاق ليكون شكراً للنعمة‏.‏

و ‏{‏سراً وعلانية‏}‏ حالان من ضمير ‏{‏ينفقوا‏}‏، وهما مصدران‏.‏ وقد تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏سراً وعلانية‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏274‏)‏‏.‏ والمقصود تعميم الأحوال في طلب الإنفاق لكيلا يظنوا أن الإعلان يجر إلى الرياء كما كان حال الجاهلية، أو أن الإنفاق سراً يفضي إلى إخفاء الغني نعمة الله فيجر إلى كفران النعمة، فربما توخى المرء أحد الحالين فأفضى إلى ترك الإنفاق في الحال الآخر فتعطل نفع كثير وثواب جزيل، فبين الله للناس أن الإنفاق بِرّ لا يكدره ما يحف به من الأحوال، وإنما الأعمال بالنيات‏.‏

وقد تقدم شيء من هذا عند قوله‏:‏ ‏{‏الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم‏}‏ ‏[‏سورة التوبة‏:‏ 79‏]‏ الآية‏.‏

وقيل المقصود من السر الإنفاق المتطوع به، ومن العلانية الإنفاق الواجب‏.‏

وتقديم السر على العلانية تنبيه على أنه أولى الحالين لبعده عن خواطر الرياء، ولأن فيه استبقاءً لبعض حياء المتصدق عليه‏.‏

وقوله‏:‏ من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه‏}‏ الخ متعلق بفعل ‏{‏يقيموا الصلوات وينفقوا‏}‏، أي ليفعلوا ذينك الأمرين قبل حلول اليوم الذي تتعذر فيه المعاوضات والإنفاق‏.‏ وهذا كناية عن عظيم منافع إقامة الصلاة والإنفاق قبل يوم الجزاء عنهما حين يتمنون أن يكونوا ازدادوا من ذينك لما يسرهم من ثوابهما فلا يجدون سبيلاً للاستزادة منهما، إذ لا بيع يومئذٍ فيشترى الثواب ولا خلال من شأنها الإرفاد والإسعاف بالثواب‏.‏ فالمراد بالبيع المعاوضة وبالخلال الكناية عن التبرع‏.‏

ونظيره قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏254‏)‏‏.‏

وبهذا تبين أن المراد من الخلال هنا آثارها، بقرينة المقام، وليس المراد نفي الخلة، أي الصحبة والمودّة لأن المودّة ثابتة بين المتقين، قال تعالى‏:‏ ‏{‏الأخلاء يومئذٍ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين‏}‏ ‏[‏سورة الزخرف‏:‏ 67‏]‏‏.‏ وقد كني بنفي البيع والخلال التي هي وسائل النوال والإرفاد عن انتفاء الاستزادة‏.‏

وإدخال حرف الجر على اسم الزمان وهو قبل‏}‏ لتأكيد القبلية ليفهم معنى المبادرة‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏لا بيع‏}‏ بالرفع‏.‏ وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، ويعقوب بالبناء على الفتح‏.‏ وهما وجهان في نفي النكرة بحرف ‏{‏لا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏32- 34‏]‏

‏{‏اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ ‏(‏32‏)‏ وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ ‏(‏33‏)‏ وَآَتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ‏(‏34‏)‏‏}‏

استئناف واقع موقع الاستدلال على ما تضمنته جملة ‏{‏وجعلوا لله أنداداً‏}‏ الآية‏.‏ وقد فصل بينه وبين المستدل عليه بجملة ‏{‏قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلوات‏}‏ الآية‏.‏ وأدمج في الاستدلال تعدادهم لنعم تستحق الشكر عليها ليظهر حال الذين كفروها، وبالضد حال الذين شكروا عليها، وليزداد الشاكرون شكراً‏.‏ فالمقصود الأول هو الاستدلال على أهل الجاهلية، كما يدل عليه تعقيبه بقوله‏:‏ ‏{‏وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمنا واجْنُبْنِي وبني أن نعبد الأصنام‏}‏ ‏[‏سورة إبراهيم‏:‏ 35‏]‏‏.‏ فجيء في هذه الآية بِنِعم عامة مشهودة محسوسة لا يستطاع إنكارها إلا أنها محتاجة للتذكير بأن المنعم بها وموجدها هو الله تعالى‏.‏

وافتتُح الكلام باسم الموجِد لأن تعيينه هو الغرض الأهم‏.‏ وأخبر عنه بالموصول لأن الصلة معلومة الانتساب إليه والثبوت له، إذ لا ينازع المشركون في أن الله هو صاحب الخلق ولا يدعون أن الأصنام تخلق شيئاً، كما قال‏:‏ ‏{‏ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله‏}‏ ‏[‏سورة لقمان‏:‏ 25‏]‏، فخلق السماوات والأرض دليل على إلهية خالقهما وتمهيد للنعم المودعة فيهما؛ فإنزال الماء من السماء إلى الأرض، وإخراج الثمرات من الأرض، والبحارُ والأنهارُ من الأرض‏.‏ والشمس والقمر من السماء، والليل والنهار من السماء ومن الأرض، وقد مضى بيان هذه النعم في آيات مضت‏.‏

والرزق القوت‏.‏ والتسخير‏:‏ حقيقته التذليل والتطويع، وهو مجاز في جعل الشيء قابلاً لتصرف غيره فيه، وقد تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره‏}‏ في سورة الأعراف ‏(‏54‏)‏‏.‏ وقوله‏:‏ لتجري في البحر‏}‏ هو علة تسخير صنعها‏.‏

ومعنى تسخير الفلك‏:‏ تسخير ذاتها بإلهام البشر لصنعها وشكلها بكيفية تجري في البحر بدون مانع‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏بأمره‏}‏ متعلق ب ‏{‏تجري‏}‏‏.‏

والأمر هنا الإذن، أي تيسير جريها في البحر، وذلك بكف العواصف عنها وبإعانتها بالريح الرخاء، وهذا كقوله‏:‏ ‏{‏ألم تر أن الله سخر لكم ما في الأرض والفلك تجري في البحر بأمره‏}‏ ‏[‏سورة الحج‏:‏ 65‏]‏‏.‏ وعبر عن هذا الأمر بالنعمة في قوله‏:‏ ‏{‏ألم تر أن الفلك تجري في البحر بنعمة الله‏}‏ ‏[‏سورة لقمان‏:‏ 31‏]‏، وقد بينته آية ‏{‏ومن آياته الجواري في البحر كالأعلام إن يشأ يسكن الرياح فيظللن رواكد على ظهره‏}‏ الآية ‏[‏سورة الشورى‏:‏ 32 33‏]‏‏.‏

وتسخير الأنهار‏:‏ خلقها على كيفية تقتضي انتقال الماء من مكان إلى مكان وقراره في بعض المنخفضات فيستقى منه من تمر عليه وينزل على ضفافه حيث تستقر مياهه، وخلق بعضها مستمرة القرار كالدجلة والفرات والنيل للشرب ولسير السفن فيها‏.‏

وتسخير الشمس والقمر خلقهما بأحوال ناسبت انتفاع البشر بضيائهما، وضبط أوقاتهم بسيرهما‏.‏

ومعنى دائبين‏}‏ دائبين على حالات لا تختلف إذ لو اختلفت لم يستطع البشر ضبطها فوقعوا في حيرة وشك‏.‏

والفلك‏:‏ جمع لفظه كلفظ مفرده‏.‏ وقد تقدم عند قوله تعالى‏:‏

‏{‏والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏164‏)‏‏.‏

ومعنى وآتاكم من كل ما سألتموه‏}‏ أعطاكم بعضاً من جميع مرغوباتكم الخارجة عن اكتسابكم بحيث شأنكم فيها أن تسألوا الله إياها، وذلك مثل توالد الأنعام، وإخراج الثمار والحب، ودفع العوادي عن جميع ذلك‏:‏ كدفع الأمراض عن الأنعام، ودفع الجوائح عن الثمار والحب‏.‏

فجملة ‏{‏وآتاكم من كل ما سألتموه‏}‏ تعميم بعد خصوص، فهي بمنزلة التذييل لما قبلها لحِكم يعلمها الله ولا يعلمونها ‏{‏ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولكن ينزل بقدر ما يشاء إنه بعباده خبير بصير‏}‏ ‏[‏سورة الشورى‏:‏ 27‏]‏، وأن الإنعام والامتنان يكون بمقدار البذل لا بمقدار الحرمان‏.‏ وبهذا يتبين تفسير الآية‏.‏

وجملة وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها‏}‏ تأكيد للتذييل وزيادة في التعميم، تنبيهاً على أن ما آتاهم الله كثير منه معلوم وكثير منه لا يحيطون بعلمه أو لا يتذكرونه عند إرادة تعداد النعم‏.‏

فمعنى ‏{‏إن تعدوا‏}‏ إن تحاولوا العد وتأخذوا فيه‏.‏ وذلك مثل النعم المعتاد بها التي ينسى الناس أنها من النعم، كنعمة التنفس، ونعمة الحواس، ونعمة هضم الطعام والشراب، ونعمة الدورة الدموية، ونعمة الصحة‏.‏ وللفخر هنا تقرير نفيس فانظره‏.‏

والإحصاء‏:‏ ضبط العدد، وهو مشتق من الحَصَا اسماً للعدد، وهو منقول من الحصى، وهو صغار الحجارة لأنهم كانوا يعدون الأعداد الكثيرة بالحصى تجنباً للغلط‏.‏

وجملة ‏{‏إن الإنسان لظلوم كفار‏}‏ تأكيد لمعنى الاستفهام الإنكاري المستعمل في تحقيق تبديل النعمة كُفراً، فلذلك فصلت عنها‏.‏

والمراد ب ‏{‏الإنسان‏}‏ صنف منه، وهو المتصف بمضمون الجملة المؤكدة وتأكيدها، فالإنسان هو المشرك، مثل الذي في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويقول الإنسان أإذا ما مت لسوف أخرج حيا‏}‏ ‏[‏سورة مريم‏:‏ 66‏]‏، وهو استعمال كثير في القرآن‏.‏

وصيغتا المبالغة في ظلوم كفار‏}‏ اقتضاهما كثرة النعم المفاد من قوله‏:‏ ‏{‏وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها‏}‏، إذ بمقدار كثرة النعم يكثر كفر الكافرين بها إذ أعرضوا عن عبادة المنعم وعبدوا ما لا يغني عنهم شيئاً، فأما المؤمنون فلا يجحدون نعم الله ولا يعبدون غيره‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏35- 36‏]‏

‏{‏وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آَمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ ‏(‏35‏)‏ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏36‏)‏‏}‏

عطف على جملة ‏{‏ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفراً‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 28‏]‏ فإنهم كما بدّلوا نعمة الله كفراً أهملوا الشكر على ما بوأهم الله من النعم بإجابة دعوة أبيهم إبراهيم عليه السلام، وبدلوا اقتداءهم بسلفهم الصالح اقتداءً بأسلافهم من أهل الضلالة، وبدلوا دُعاء سلفهم الصالح لهم بالإنعام عليهم كفراً بمفيض تلك النّعَم‏.‏

ويجوز أن تكون معطوفة على جملة الله الذي خلق السموات والأرض‏}‏ بأن انتقل من ذكر النعم العامة للناس التي يدخل تحت مِنتها أهل مكة بحكم العموم إلى ذكر النعم التي خص الله بها أهل مكة‏.‏ وغير الأسلوب في الامتنان بها إلى أسلوب الحكاية عن إبراهيم لإدماج التنويه بإبراهيم عليه السلام والتعريض بذريته من المشركين‏.‏

‏(‏وإذا‏)‏ اسم زمان ماض منصوب على المفعولية لفعل محذوف شائع الحذف في أمثاله، تقديره‏:‏ واذكر إذ قال إبراهيم، زيادة في التعجيب من شأن المشركين الذي مر في قوله‏:‏ ‏{‏ألم تر إلى الذين بدلّوا نعمة الله كفراً‏}‏، فموقع العبرة من الحالين واحد‏.‏

و ‏{‏رب‏}‏ منادى محذوف منه حرف النداء‏.‏ وأصله ‏(‏ربي‏)‏، حذفت ياء المتكلم تخفيفاً، وهو كثير في المنادى المضاف إلى الياء‏.‏

والبلد‏:‏ المكان المعين من الأرض، ويطلق على القرية‏.‏ والتعريف في ‏{‏البلد‏}‏ تعريف العهد لأنه معهود الحضور‏.‏ و‏{‏البلد‏}‏ بدل من اسم الإشارة‏.‏

وحكاية دعائه بدون بيان البلد إبهام يرد بعده البيان بقوله‏:‏ ‏{‏عند بيتك المحرم‏}‏ ‏[‏سورة إبراهيم‏:‏ 37‏]‏، أو هو حَوالة على ما في علم العرب من أنه مكة‏.‏ وقد مضى في سورة البقرة تفسير نظيره‏.‏ والتعريف هنا للعهد، والتنكير في آية البقرة تنكير النوعية، فهنا دَعَا للبلد بأن يكون آمنا، وفي آية سورة البقرة دَعَا لِمشار إليه أن يجعله الله من نوع البلاد الآمنة، فمآل المفادين متحد‏.‏

واجنبني‏}‏ أمر من الثلاثي المجرد، يقال‏:‏ جنبه الشيء، إذا جعله جانباً عنه، أي باعده عنه، وهي لغة أهل نجد‏.‏ وأهلُ الحجاز يقولون‏:‏ جنبه بالتضعيف أو أجنبه بالهمز‏.‏ وجاء القرآن هنا بلغة أهل نجد لأنها أخف‏.‏

وأراد ببنيه أبناء صلبه، وهم يومئذٍ إسماعيل وإسحاق، فهو من استعمال الجمع في التثنية، أو أراد جميع نسله تعميماً في الخير فاستجيب له في البعض‏.‏

والأصنام‏:‏ جمع صنم، وهو صورة أو حجارة أو بناء يتخذ معبوداً ويُدعى إلهاً‏.‏ وأراد إبراهيم عليه السلام مثل ودَ وسواععٍ ويغوثَ ويعوقَ ونَسْرٍ، أصنام قوم نوح‏.‏ ومثل الأصنام التي عبدها قوم إبراهيم‏.‏

وإعادة النداء في قوله‏:‏ ‏{‏رب إنهن أضللن كثيراً من الناس‏}‏ لإنشاء التحسر على ذلك‏.‏

وجملة ‏{‏إنهن أضللن كثيراً من الناس‏}‏ تعليل للدعوة بإجنابه عبادتها بأنها ضلال راج بين كثير من الناس، فحق للمؤمن الضنين بإيمانه أن يخشى أن تجترفه فتنتها، فافتتاح الجملة بحرف التوكيد لما يفيده حرف ‏(‏إنّ‏)‏ في هذا المقام من معنى التعليل‏.‏

وذلك أن إبراهيم عليه السلام خرج من بلده أُور الكلدانيين إنكاراً على عبدة الأصنام، فقال‏:‏ ‏{‏إني ذاهب إلى ربي سيهدين‏}‏ ‏[‏سورة الصافات‏:‏ 99‏]‏ وقال لقومه‏:‏ ‏{‏وأعتزلكم وما تدعون من دون الله‏}‏ ‏[‏سورة مريم‏:‏ 48‏]‏‏.‏ فلما مر بمصر وجدهم يعبدون الأصنام ثم دخل فلسطين فوجدهم عبدة أصنام، ثم جاء عَرَبَةَ تهامة فأسكن بها زوجه فوجدها خالية ووجد حولها جُرْهمَ قوماً على الفطرة والسذاجة فأسكن بها هاجر وابنه إسماعيل عليه السلام‏.‏ ثم أقام هنالك مَعلَم التوحيد‏.‏ وهو بيت الله الكعبة بناه هو وابنه إسماعيل، وأراد أن يكون مأوى التوحيد، وأقام ابنه هنالك ليكون داعية للتوحيد‏.‏ فلا جرم سأل أن يكون ذلك بلداً آمناً حتى يسلم ساكنوه وحتى يأوي إليهم من إذا آوى إليهم لقنوه أصول التوحيد‏.‏

ففرع على ذلك قوله‏:‏ فمن تبعني فإنه مني‏}‏، أي فمن تبعني من الناس فتجنب عبادة الأصنام فهو مني، فدخل في ذلك أبوه وقومه، ويدخل فيه ذريته لأن الشرط يصلح للماضي والمستقبل‏.‏

و ‏(‏من‏)‏ في قوله‏:‏ ‏{‏مِني‏}‏ اتصالية‏.‏ وأصلها التبعيض المجازي، أي فإنه متصل بي اتصال البعض بكله‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ومن عصاني فإنك غفور رحيم‏}‏ تأدب في مقام الدعاء ونفع للعصاة من الناس بقدر ما يستطيعه‏.‏ والمعنى ومن عصاني أفوّض أمره إلى رحمتك وغفرانك‏.‏ وليس المقصود الدعاء بالمغفرة لمن عصى‏.‏ وهذا من غلبة الحلم على إبراهيم عليه السلام وخشية من استئصال عصاة ذريته‏.‏ ولذلك متعهم الله قليلاً في الحياة الدنيا، كما أشار إليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قال ومن كفر فأمتعه قليلاً ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير‏}‏ ‏[‏سورة البقرة‏:‏ 126‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني فإنه سيهدين وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون بل متعت هؤلاء وآباءهم حتى جاءهم الحق ورسول مبين‏}‏ ‏[‏سورة الزخرف‏:‏ 27‏]‏‏.‏ وسوق هذه الدعوة هنا للتعريض بالمشركين من العرب بأنهم لم يبروا بأبيهم إبراهيم عليه السلام‏.‏

وإذ كان قوله‏:‏ فإنك غفور رحيم‏}‏ تفويضاً لم يكن فيه دلالة على أن الله يغفر لمن يشرك به‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏37‏]‏

‏{‏رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ ‏(‏37‏)‏‏}‏

جملة ‏{‏إني أسكنت من ذريتي‏}‏ مستأنفة لابتداء دعاء آخر‏.‏ وافتتحت بالنداء لزيادة التضرع‏.‏ وفي كون النداء تأكيداً لنداء سابق ضرب من الربط بين الجمل المفتتحة بالنداء ربط المثل بمثله‏.‏

وأضيف الرب هنا إلى ضمير الجمع خلافاً لسابقيه لأن الدعاء الذي افتتح به فيه حظ للداعي ولأبنائه‏.‏ ولعل إسماعيل عليه السلام حاضر معه حين الدعاء كما تدل له الآية الأخرى ‏{‏وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم‏}‏ إلى قوله ‏{‏واجعلنا مسلمين لك‏}‏ ‏[‏سورة البقرة‏:‏ 127‏]‏‏.‏ وذلك من معنى الشكر المسؤول هنا‏.‏

ومِن‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏من ذريتي‏}‏ بمعنى بعض، يعني إسماعيل عليه السلام، وهو بعض ذريته، فكأن هذا الدعاء صدر من إبراهيم عليه السلام بعد زمان من بناء الكعبة وتقري مكة، كما دل عليه قوله في دعائه هذا ‏{‏الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق‏}‏ ‏[‏سورة إبراهيم‏:‏ 39‏]‏، فذكر إسحاق عليه السلام‏.‏

والواد‏:‏ الأرض بين الجبال، وهو وادي مكة‏.‏ وغير ذي زرع‏}‏ صفة، أي بواد لا يصلح للنبت لأنه حجارة، فإن كلمة ‏{‏ذُو‏}‏ تدلّ على صَاحببِ ما أضيفت إليه وتمكنه منه، فإذا قيل‏:‏ ذو مال، فالمال ثابت له، وإذا أريد ضد ذلك قيل غير ذي كذا، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قرآناً عربياً غير ذي عوج‏}‏ ‏[‏سورة الزمر‏:‏ 28‏]‏، أي لا يعتريه شيء من العوج‏.‏ ولأجل هذا الاستعمال لم يقل بواد لا يزرع أولا زرع به‏.‏

وعند بيتك‏}‏ صفة ثانية لوادٍ أو حال‏.‏

والمحرم‏:‏ الممنع من تناول الأيدي إياه بما يفسده أو يضر أهله بما جعل الله له في نفوس الأمم من التوقير والتعظيم، وبما شاهدوه من هلكة من يريد فيه بإلحاد بظلم‏.‏ وما أصحاب الفيل منهم ببعيد‏.‏

وعلق ‏{‏ليقيموا‏}‏ ب ‏{‏أسكنت‏}‏، أي علة الإسكان بذلك الوادي عند ذلك البيت أن لا يشغلهم عن إقامة الصلاة في ذلك البيت شاغل فيكون البيت معموراً أبداً‏.‏

وتوسيط النداء للاهتمام بمقدمة الدعاء زيادة في الضراعة‏.‏ وتهيّأ بذلك أن يفرع عليه الدعاء لهم بأن يجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم، لأن همة الصالحين في إقامة الدين‏.‏

والأفئدة‏:‏ جمع فؤاد، وهو القلب‏.‏ والمراد به هنا النفس والعقل‏.‏

والمراد فاجعل أناساً يهوون إليهم‏.‏ فأقحم لفظ الأفئدة لإرادة أن يكون مسير الناس إليهم عن شوق ومحبة حتى كأن المسرع هو الفؤاد لا الجسد فلما ذكر ‏{‏أفئدة‏}‏ لهذه النكتة حسن بيانه بأنهم ‏{‏من الناس‏}‏، ف ‏{‏من‏}‏ بيانية لا تبعيضية، إذ لا طائل تحته‏.‏ والمعنى‏:‏ فاجعل أناساً يقصدونهم بحبات قلوبهم‏.‏

وتهوي مضارع هوَى بفتح الواو‏:‏ سقط‏.‏ وأطلق هنا على الإسراع في المشي استعارة، كقول امرئ القيس‏:‏

كجلمود صخْرٍ حَطّه السيلُ من عل ***

ولذلك عدّي باللام دون على‏.‏

والإسراع‏:‏ جُعل كناية عن المحبة والشوق إلى زيارتهم‏.‏

والمقصود من هذا الدعاء تأنيس مكانهم بتردد الزائرين وقضاء حوائجهم منهم‏.‏

والتنكير مطلقٌ يحمل على المتعارف في عمران المدن والأسواق بالواردين، فلذلك لم يقيده في الدعاء بما يدل على الكثرة اكتفاء بما هو معروف‏.‏

ومحبة الناس إياهم يحصل معها محبة البلد وتكرير زيارته، وذلك سبب لاستئناسهم به ورغبتهم في إقامة شعائره، فيؤول إلى الدعوة إلى الدين‏.‏

ورجاء شكرهم داخل في الدعاء لأنه جُعل تكملة له تعرضاً للإجابة وزيادة في الدعاء لهم بأن يكونوا من الشاكرين‏.‏ والمقصود‏:‏ توفر أسباب الانقطاع إلى العبادة وانتفاء ما يحول بينهم وبينها من فتنة الكدح للاكتساب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏38‏]‏

‏{‏رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ ‏(‏38‏)‏‏}‏

جاء بهذا التوجه إلى الله جامعاً لما في ضميره، وفذلكةً للجمل الماضية لِما اشتملت عليه من ذكر ضلال كثير من الناس، وذكر من اتبع دعوته ومن عصاه، وذكر أنه أراد من إسكان أبنائه بمكة رجاء أن يكونوا حراس بيت الله، وأن يقيموا الصلاة، وأن يشكروا النعم المسؤولة لهم‏.‏ وفيه تعليم لأهله وأتباعه بعموم علم الله تعالى حتى يراقبوه في جميع الأحوال ويخلصوا النية إليه‏.‏

وجملة ‏{‏وما يخفى على الله من شيء‏}‏ تذييل لجملة ‏{‏إنك تعلم ما نخفي وما نعلن‏}‏، أي تعلم أحوالنا وتعلم كل شيء‏.‏ ولكونها تذييلاً أظهر فيها اسم الجلالة ليكون التذييل مستقلاً بنفسه بمنزلة المَثل والكلام الجامع‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏39‏]‏

‏{‏الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ ‏(‏39‏)‏‏}‏

لما دعا الله لأَهَمّ ما يهمه وهو إقامة التوحيد وكان يرجو إجابة دعوته وأن ذلك ليس بَعجبُ في أمر الله خطر بباله نعمة الله عليه بما كان يسأله وهو أن وهب له ولدَيْن في إبان الكِبَر وحين اليأس من الولادة فناجى الله فحمده على ذلك وأثنى عليه بأنه سميع الدعاء، أي مجيب، أي متصف بالإجابة وصفاً ذاتياً، تمهيداً لإجابة دعوته هذه كما أجاب دعوتَه سلفاً‏.‏ فهذا مناسبة مَوقع هذه الجملة بعد ما قبلها بقرينة قوله‏:‏ ‏{‏إن ربي لسميع الدعاء‏}‏‏.‏

واسم الموصول إيماء إلى وجه بناء الحمد‏.‏ و‏{‏على‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏على الكبر‏}‏ للاستعلاء المجازي بمعنى ‏{‏مع‏}‏، أي وهب ذلك تعلياً على الحالة التي شأنها أن لا تسمح بذلك‏.‏ ولذلك يفسرون ‏{‏على‏}‏ هذه بمعنى ‏{‏مع‏}‏، أي مع الكِبَر الذي لا تحصل معه الولادة‏.‏ وكان عُمُر إبراهيم حين ولد له إسماعيل عليهما السلام ستا وثمانين سنة ‏(‏86‏)‏‏.‏ وعمره حين ولد له إسحاق عليهما السلام مائة سنة ‏(‏100‏)‏‏.‏ وكان لا يولد له من قبل‏.‏

وجملة ‏{‏إن ربي لسميع الدعاء‏}‏ تعليل لجملة ‏{‏وهب‏}‏، أي وهب ذلك لأنه سميع الدعاء‏.‏ والسميع مستعمل في إجابة المطلوب كناية، وصيغ بمثال المبالغة أو الصفة المشبهة ليدلّ على كثرة ذلك وأن ذلك شأنه، فيفيد أنه وصف ذاتي لله تعالى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏40- 41‏]‏

‏{‏رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ ‏(‏40‏)‏ رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ ‏(‏41‏)‏‏}‏

جملة مستأنفة من تمام دعائه‏.‏ وفعل ‏{‏اجعلني‏}‏ مستعمل في التكوين، كما تقدم آنفاً، أي اجعلني في المستقبل مقيم الصلاة‏.‏

والإقامة‏:‏ الإدامة، وتقدم في صدر سورة البقرة‏.‏

‏{‏ومن ذريتي‏}‏ صفة لموصوف محذوف معطوف على ياء المتكلم‏.‏ والتقدير واجعل مقيمين للصلاة من ذريتي‏.‏

و ‏{‏من‏}‏ ابتدائة وليست للتبعيض، لأن إبراهيم عليه السلام لا يسأل الله إلا أكمل ما يحبه لنفسه ولذريته‏.‏ ويجُوز أن تكون ‏{‏من‏}‏ للتبعيض بناءً على أن الله أعلمه بأن يكون من ذريته فريق يقيمون الصلاة وفريق لا يقيمونها، أي لا يؤمنون‏.‏ وهذا وجه ضعيف لأنه يقتضي أن يكون الدعاء تحصيلاً لحاصل، وهو بعيد، وكيف وقد قال‏:‏ ‏{‏واجنبني وبني أن نعبد الأصنام‏}‏ ‏[‏سورة إبراهيم‏:‏ 35‏]‏ ولم يقل‏:‏ ومن بَنِيّ‏.‏

ودعاؤه بِتَقَبل دعائه ضراعة بعد ضراعة‏.‏

وحُذفت ياء المتكلم في دعاءِ‏}‏ في قراءة الجمهور تخفيفاً كما تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإليه متاب‏}‏ في سورة الرعد ‏(‏30‏)‏‏.‏

وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وحمزة بإثبات الياء ساكنة‏.‏

ثم دعا بالمغفرة لنفسه وللمؤمنين ولوالديه ما تقدم منه ومن المؤمنين قبل نبوءته وما استمر عليه أبُوه بعد دعوته من الشرك، أما أمه فلعلها توفيت قبل نبوءته‏.‏ وهذا الدعاء لأبويه قبل أن يتبين له أن أباه عدوّ لله كما في آية سورة براءة‏.‏

ومعنى يقوم الحساب‏}‏‏:‏ يثبت‏.‏ استعير القيام للثبوت تبعاً لتشبيه الحساب بإنسان قائم، لأن حالة القيام أقوى أحوال الإنسان إذ هو انتصاب للعمل‏.‏ ومنه قولهم‏:‏ قامت الحرب على ساق، إذا قويت واشتدت‏.‏ وقولهم‏:‏ ترجلت الشمس، إذا قوي ضوءها، وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويقيمون الصلاة‏}‏ في أول سورة البقرة ‏(‏4‏)‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏42- 43‏]‏

‏{‏وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ ‏(‏42‏)‏ مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ ‏(‏43‏)‏‏}‏

عطف على الجمل السابقة، وله اتصال بجملة ‏{‏قل تمتعوا فإن مصيركم إلى النار‏}‏ ‏[‏سورة إبراهيم‏:‏ 30‏]‏ الذي هو وعيد للمشركين وإنذار لهم بأن لا يغتروا بسلامتهم وأمنهم تنبيهاً لهم على أن ذلك متاع قليل زائل، فأكد ذلك الوعيد بهذه الآية، مع إدماج تسلية الرسول عليه الصلاة والسلام على ما يتطاولون به من النعمة والدعة، كما دل عليه التفريع في قوله ‏{‏فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله‏}‏ ‏[‏سورة إبراهيم‏:‏ 47‏]‏‏.‏ وفي معنى الآية قوله‏:‏ ‏{‏وذرني والمكذبين أولي النعمة ومهلهم قليلا‏}‏ ‏[‏سورة المزمل‏:‏ 11‏]‏‏.‏

وباعتبار ما فيه من زيادة معنى التسلية وما انضم إليه من وصف فظاعة حال المشركين يوم الحشر حسن اقتران هذه الجملة بالعاطف ولم تفصل‏.‏

وصيغة لا تحسبن‏}‏ ظاهرها نهي عن حسبان ذلك‏.‏ وهذا النهي كناية عن إثبات وتحقيق ضد المنهي عنه في المقام الذي من شأنه أن يثير للناس ظَنّ وقوع المنهي عنه لقوة الأسباب المثيرة لذلك‏.‏ وذلك أن إمهالهم وتأخير عقوبتهم يشبه حالة الغافل عن أعمالهم، أي تحقق أن الله ليس بغافل، وهو كناية ثانية عن لازم عدم الغفلة وهو المؤاخذة، فهو كناية بمرتبتين، ذلك لأن النهي عن الشيء يأذن بأن المنهي عنه بحيث يتلبس به المخاطب، فنهيه عنه تحذير من التلبس به بقطع النظر عن تقدير تلبس المخاطب بذلك الحسبان‏.‏ وعلى هذا الاستعمال جاءت الآية سواء جعلنا الخطاب لكل من يصح أن يخاطب فيدخل فيه النبي عليه الصلاة والسلام أم جعلناه للنبي ابتداء ويدخل فيه أمته‏.‏

ونفي الغفلة عن الله ليس جارياً على صريح معناه لأن ذلك لا يظنه مؤمن بل هو كناية عن النهي عن استعجال العذاب للظالمين‏.‏ ومنه جاء معنى التسلية للرسول صلى الله عليه وسلم

والغفلة‏:‏ الذهول، وتقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن كنا عن دراستهم لغافلين‏}‏ في سورة الأنعام ‏(‏156‏)‏‏.‏

والمراد بالظلم هنا الشرك، لأنه ظلم للنفس بإيقاعها في سبب العذاب المؤلم، وظلم لله بالاعتداء على ما يجب له من الاعتراف بالوحدانية‏.‏ ويشمل ذلك ما كان من الظلم دون الشرك مثل ظلم الناس بالاعتداء عليهم أو حرمانهم حقوقهم فإن الله غير غافل عن ذلك‏.‏ ولذلك قال سفيان بن عُيَيْنة هي تسلية للمظلوم وتهديد للظالم‏.‏

وقوله‏:‏ فيه الأبصار‏}‏ مبنية لجملة ‏{‏ولا تحسبن الله غافلاً‏}‏ الخ‏.‏

وشخوص البصر‏:‏ ارتفاعه كنظر المبهوت الخائف‏.‏

وأل في ‏{‏الأبصار‏}‏ للعموم، أي تشخص فيه أبصار الناس من هول ما يرون‏.‏ ومن جملة ذلك مشاهدة هول أحوال الظالمين‏.‏

والإهطاع‏:‏ إسراع المشي مع مد العنق كالمتختل، وهي هيئة الخائف‏.‏

وإقناع الرأس‏:‏ طأطأته من الذل، وهو مشتق من قَنَع من باب مَنَع إذا تذلّل‏.‏ و‏{‏مهطعين مقنعي رؤوسهم‏}‏ حالان‏.‏

وجملة ‏{‏لا يرتد إليهم طرفهم‏}‏ في موضع الحال أيضاً‏.‏ والطَرْف‏:‏ تحرك جفن العين‏.‏

ومعنى ‏{‏لا يرتد إليهم‏}‏ لا يرْجع إليهم، أي لا يعود إلى معتاده، أي لا يستطيعون تحويله‏.‏ فهو كناية عن هول ما شاهدوه بحيث يبقون ناظرين إليه لا تطرف أعينهم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وأفئدتهم هواء‏}‏ تشبيه بليغ، إذ هي كالهواء في الخلو من الإدراك لشدة الهول‏.‏

والهواء في كلام العرب‏:‏ الخلاء‏.‏ وليس هو المعنى المصطلح عليه في علم الطب وعلم الهيئة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏44- 45‏]‏

‏{‏وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ ‏(‏44‏)‏ وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ ‏(‏45‏)‏‏}‏

‏{‏وَأَنذِرِ الناس يَوْمَ يَأْتِيهِمُ العذاب فَيَقُولُ الذين ظلموا رَبَّنَآ أَخِّرْنَآ إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرسل‏}‏‏.‏

عطف على جملة ‏{‏ولا تحسبن الله غافلاً عما يعمل الظالمون‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 42‏]‏، أي تَسَلّ عنهم ولاتملل من د عوتهم وأنذرهم‏.‏

والناس يعم جميع البشر‏.‏ والمقصود‏:‏ الكافرون، بقرينة قوله‏:‏ يوم يأتيهم العذاب فيقول الذين ظلموا‏}‏‏.‏ ولك أن تجعل الناس ناساً معهودين وهم المشركون‏.‏

و ‏{‏يوم يأتيهم العذاب‏}‏‏.‏ منصوب على أنه مفعول ثاننٍ ل ‏{‏أنذر‏}‏، وهو مضاف إلى الجملة‏.‏ وفعل الإنذار يتعدى إلى مفعول ثاننٍ على التوسع لتضمينه معنى التحذير، كما في الحديث «ما من نبي إلا أنذر قومه الدجال»‏.‏

وإتيان العذاب مستعمل في معنى وقوعه مجازاً مرسلاً‏.‏

والعذاب‏:‏ عذاب الآخرة، أو عذاب الدنيا الذي هُدّد به المشركون‏.‏ و‏{‏الذين ظلموا‏}‏‏:‏ المشركون‏.‏

وطلب تأخير العذاب إن كان مراداً به عذاب الآخرة فالتأخير بمعنى تأخير الحساب، أي يقول الذين ظلموا‏:‏ أرجعنا إلى الدنيا لنجيب دعوتك‏.‏ وهذا كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏رب ارجعون لعلي أعمل صالحاً فيما تركت‏}‏ ‏[‏سورة المؤمنون‏:‏ 99، 100‏]‏، فالتأخير مستعمل في الإعادة إلى الحياة الدنيا مجازاً مرسلاً بعلاقة الأول‏.‏ والرسل جميع الرسل الذي جاءُوهم بدعوة الله‏.‏

وإن حمل على عذاب الدنيا فالمعنى‏:‏ أن المشركين يقولون ذلك حين يرون ابتداء العذاب فيهم‏.‏ فالتأخير على هذا حقيقة‏.‏ والرسل على هذا المحمل مستعمل في الواحد مجازاً، والمراد به محمد‏.‏

والقريب‏:‏ القليل الزمن‏.‏ شبه الزمان بالمسافة، أي أخّرنا مقدار ما نجيب به دعوتك‏.‏

أَوَلَمْ تكونوا أَقْسَمْتُمْ مِّن قَبْلُ مَا لَكُمْ مِّن زَوَالٍ‏}‏ ‏{‏وَسَكَنتُمْ فِى مساكن الذين ظلموا أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأمثال‏}‏

لما ذُكر قبل هذه الجملة طلب الذين ظلموا من ربهم تعين أن الكلام الواقع بعدها يتضمن الجواب عن طلبهم فهو بتقدير قول محذوف، أي يقال لهم‏.‏ وقد عُدل عن الجواب بالإجابة أو الرفض إلى التقرير والتوبيخ لأن ذلك يستلزم رفض ما سألوه‏.‏

وافتتحت جملة الجواب بواو العطف تنبيهاً على معطوف عليه مقدر هو رفض ما سَألوه، حُذف إيجازاً لأن شأن مستحق التوبيخ أن لا يعطى سؤله‏.‏ التقدير كلا وألَم تكونوا أقسمتم‏.‏‏.‏ الخ‏.‏

والزوال‏:‏ الانتقال من المكان‏.‏ وأريد به هنا الزوال من القبور إلى الحساب‏.‏

وحذف متعلق ‏{‏زوال‏}‏ لظهور المراد، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وأقسموا بالله جهَد أيمانهم لا يبعث الله من يموت‏}‏ ‏[‏سورة النحل‏:‏ 38‏]‏‏.‏

وجملة ما لكم من زوال‏}‏ بيان لجملة ‏{‏أقسمتم‏}‏‏.‏ وليست على تقدير قول محذوف ولذلك لم يسرع فيها طريق ضمير المتكلم فلم يقل‏:‏ ما لنا من زوال، بل جيء بضمير الخطاب المناسب لقوله‏:‏ ‏{‏أولم تكونوا أقسمتم‏}‏‏.‏

وهذا القسم قد يكون صادر من جميع الظالمين حين كانوا في الدنيا لأنهم كانوا يتلقون تعاليم واحدة في الشرك يتلقاها الخلف عن سلفهم‏.‏

ويجوز أن يكون ذلك صادراً من معظم هذه الأمم أو بعضها ولكن بقيتهم مضمرون لمعنى هذا القسم‏.‏

وكذلك الخطاب في قوله‏:‏ ‏{‏وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم‏}‏ فإنه يعم جميع أمم الشرك عدا الأمة الأولى منهم‏.‏ وهذا من تخصيص العموم بالعقل إذ لا بد أن تكون الأمة الأولى من أهل الشرك لم تسكن في مساكن مشركين‏.‏

والمراد بالسكنى‏:‏ الحلول، ولذلك عُدّي بحرف الظرفية خلافاً لأصل فعله المتعدي بنفسه‏.‏ وكان العرب يمرون على ديار ثمود في رحلتهم إلى الشام ويحطون الرحال هنالك، ويمرون على ديار عاد في رحلتهم إلى اليمن‏.‏

وتبيّنُ ما فعل الله بهم من العقاب حاصل من مشاهدة آثار العذاب من خسف وفناء استئصال‏.‏

وضَرب الأمثال بأقوال المواعظ على ألسنة الرسل عليهم السلام، ووصف الأحوال الخفية‏.‏

وقد جمع لهم في إقامة الحجة بين دلائل الآثار والمشاهدة ودلائل الموعظة‏.‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏46‏]‏

‏{‏وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ ‏(‏46‏)‏‏}‏

يجوز أن يكون عطفَ خبر على خبر، ويجوز أن يكون حالاً من ‏{‏الناس‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏وأنذر الناس‏}‏، أي أنذرهم في حال وقوع مكرهم‏.‏

والمكر‏:‏ تبييت فعل السوء بالغير وإضمارُهُ‏.‏ وتقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومكروا ومكر الله‏}‏ في سورة آل عمران ‏(‏54‏)‏، وفي قوله‏:‏ ‏{‏أفأمنوا مكر الله‏}‏ في سورة الأعراف ‏(‏99‏)‏‏.‏

وانتصب مكرهم‏}‏ الأول على أنه مفعول مطلق لفعل ‏{‏مكروا‏}‏ لبيان النوع، أي المكر الذي اشتهروا به، فإضافة ‏{‏مكر‏}‏ إلى ضمير ‏{‏هم‏}‏ من إضافة المصدر إلى فاعله‏.‏ وكذلك إضافة ‏{‏مكر‏}‏ الثاني إلى ضمير ‏{‏هم‏}‏‏.‏

والعندية إما عندية عِلم، أي وفي علم الله مكرهم، فهو تعري بالوعيد والتهديد بالمؤاخذة بسوء فعلهم، وإما عندية تكوين ما سُمي بمكر الله وتقديره في إرادة الله فيكون وعيداً بالجزاء على مكرهم‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏لتزول‏}‏ بكسر اللام وبنصب الفعل المضارع بعدها فتكون ‏(‏إن‏)‏ نافية ولام ‏{‏لتزول‏}‏ لام الجحود، أي وما كان مكرهم زائلة منه الجبال، وهو استخفاف بهم، أي ليس مكرهم بمتجاوز مكر أمثالهم، وما هو بالذي تزول منه الجبال‏.‏ وفي هذا تعريض بأن الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين الذين يريد المشركون المكر بهم لا يزعزعهم مكرهم لأنهم كالجبال الرواسي‏.‏

وقرأ الكسائي وحده بفتح اللام الأولى من ‏{‏لَتزولُ‏}‏ ورفع اللام الثانية على أن تكون ‏{‏إنْ‏}‏ مخففة من ‏{‏إنْ‏}‏ المؤكدة وقد أكمل إعمالها، واللام فارقة بينها وبين النافية، فيكون الكلام إثباتاً لزوال الجبال من مكرهم، أي هو مكر عظيم لَتزول منه الجبال لو كان لها أن تزول، أي جديرة، فهو مستعمل في معنى الجدارة والتأهل للزوال لو كانت زائلة‏.‏ وهذا من المبالغة في حصول أمر شنيع أو شديد في نوعه على نحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هداً‏}‏ ‏[‏سورة مريم‏:‏ 90‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏47‏]‏

‏{‏فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ ‏(‏47‏)‏‏}‏

تفريع على جميع ما تقدم من قوله‏:‏ ‏{‏ولا تحسبن الله غافلاً عما يعمل الظالمون‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 42‏]‏‏.‏ وهذا محل التسلية‏.‏ والخطاب للنبيء‏.‏ وتقدم نظيره آنفاً عند قوله‏:‏ ولا تحسبن الله غافلاً عما يعمل الظالمون، لأن تأخير ما وعد الله رسوله عليه الصلاة والسلام من إنزال العقاب بأعدائه يشبه حال المخلف وعده، فلذلك نهي عن حُسبانه‏.‏

وأضيف مخلف‏}‏ إلى مفعوله الثاني وهو ‏{‏وعده‏}‏ وإن كان المفعول الأول هو الأصل في التقديم والإضافة إليه لأن الاهتمام بنفي إخلاف الوعد أشد، فلذلك قدم ‏{‏وعده‏}‏ على ‏{‏رسله‏}‏‏.‏

و ‏{‏رسله‏}‏ جمع مراد به النبي صلى الله عليه وسلم لا محالة، فهو جمع مستعمل في الواحد مجازاً‏.‏ وهذا تثبيت للنبيء صلى الله عليه وسلم بأن الله منجز له ما وعده من نصره على الكافرين به‏.‏ فأما وعده للرسل السابقين فذلك أمر قد تحقق فلا يناسب أن يكون مراداً من ظاهر جمع ‏{‏رسله‏}‏‏.‏

وجملة ‏{‏إن الله عزيز ذو انتقام‏}‏ تعليل للنهي عن حُسبانه مُخلف وعده‏.‏

والعزة‏:‏ القدرة‏.‏ والمعنى‏:‏ أن موجب إخلاف الوعد منتف عن الله تعالى لأن إخلاف الوعد يكون إما عن عَجز وإما عن عدم اعتياد الموعود به، فالعزة تنفي الأول وكونُه صاحب انتقام ينفي الثاني‏.‏ وهذه الجملة تذييل أيضاً وبها تمّ الكلام‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏48- 51‏]‏

‏{‏يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ‏(‏48‏)‏ وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ ‏(‏49‏)‏ سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ ‏(‏50‏)‏ لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ‏(‏51‏)‏‏}‏

استئناف لزيادة الإنذار بيوم الحساب، لأن في هذا تبيين بعض ما في ذلك اليوم من الأهوال؛ فلك أن تجعل ‏{‏يوم تبدل الأرض‏}‏ متعلقاً بقوله‏:‏ ‏{‏سريع الحساب‏}‏ قُدّم عليه للاهتمام بوصف ما يحصل فيه، فجاء على هذا النظم ليحصل من التشويق إلى وصف هذا اليوم لما فيه من التهويل‏.‏

ولك أن تجعله متعلقاً بفعل محذوف تقديره‏:‏ اذكُرْ يوم تبدل الأرض، وتجعل جملة ‏{‏إن الله سريع الحساب‏}‏ على هذا تذييلاً‏.‏

ولك أن تجعله متعلقاً بفعل محذوف دل عليه قوله‏:‏ ‏{‏ليجزي الله كل نفس ما كسبت‏}‏‏.‏ والتقدير يجزي اللّهُ كلّ نفس بما كسبت يومَ تبدل الأرض‏.‏‏.‏ الخ‏.‏

وجملة ‏{‏إن الله سريع الحساب‏}‏ تذييل أيضاً‏.‏

والتبديل‏:‏ التغيير في شيء إما بتغيير صفاته، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات‏}‏ ‏[‏سورة الفرقان‏:‏ 70‏]‏، وقولك‏:‏ بدلتُ الحَلقة خاتماً وإما بتغيير ذاته وإزالتها بذات أخرى، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏بدلناهم جلوداً غيرها‏}‏ ‏[‏سورة النساء‏:‏ 56‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط‏}‏ ‏[‏سورة سبأ‏:‏ 16‏]‏‏.‏

وتبديل الأرض والسماوات يوم القيامة‏:‏ إما بتغيير الأوصاف التي كانت لها وإبطال النُظم المعروفة فيها في الحياة الدنيا، وإما بإزالتها ووجدان أرض وسماوات أخرى في العالم الأخروي‏.‏ وحاصل المعنى استبدال العالم المعهود بعالم جديد‏.‏

ومعنى وبرزوا لله الواحد القهار‏}‏ مثل ما ذكر في قوله‏:‏ ‏{‏وبرزوا لله جميعاً‏}‏ ‏[‏سورة إبراهيم‏:‏ 21‏]‏‏.‏ والوصف بالواحد القهار‏}‏ للرد على المشركين الذين أثبتوا له شركاء وزعموا أنهم يدافعون عن أتباعهم‏.‏ وضمير ‏{‏برزوا‏}‏ عائد إلى معلوم من السياق، أي وبرز الناس أو برز المشركون‏.‏

والتقرين‏:‏ وضع اثنين في قرن، أي حبل‏.‏

والأصفاد جمع صِفاد بوزن كتاب، وهو القيد والغل‏.‏

والسرابيل‏:‏ جمع سِربال وهو القميص‏.‏ وجملة ‏{‏سرابيلهم من قطران‏}‏ حال من ‏{‏المجرمين‏}‏‏.‏

والقطران‏:‏ دهن من تركيب كيمياوي قديم عند البشر يصنعونه من إغلاء شَجر الأرز وشجر السرو وشجر الأبهل بضم الهمزة والهاء وبينهما موحدة ساكنة وهو شجر من فصيلة العرعر‏.‏ ومن شجر العرعر بأن تقطع الأخشاب وتجعل في قبة مبنية على بلاط سَوِي وفي القبة قناة إلى خارج‏.‏ وتُوقد النار حول تلك الأخشاب فتصعد الأبخرة منها ويسري ماء البخار في القناة فتصب في إناء آخر موضوع تحت القناة فيتجمع منهماء أسود يعلوه زبد خاثر أسود‏.‏ فالماء يعرف بالسائل والزَبَد يعرف بالبرقي‏.‏ ويتخذ للتداوي من الجرب للإبل ولغير ذلك مما هو موصوف في كتب الطب وعلم الأَقْرَبَاذين‏.‏

وجعلت سرابيلهم من قطران لأنه شديد الحرارة فيؤلم الجِلدَ الواقعَ هو عليه، فهو لباسهم قبل دخول النار ابتداء بالعذاب حتى يقعوا في النار‏.‏

وجملة ‏{‏إن الله سريع الحساب‏}‏ مستأنفة، إما لتحقيق أن ذلك واقع كقوله‏:‏ ‏{‏إنما توعدون لصادق وإن الدين لواقع‏}‏ ‏[‏سورة الذاريات‏:‏ 5، 6‏]‏، وإما استئناف ابتدائي‏.‏ وأخرت إلى آخر الكلام لتقديم يوم تبدل الأرض‏}‏ إذا قُدر معمولاً لها كما ذكرناه آنفاً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏52‏]‏

‏{‏هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ ‏(‏52‏)‏‏}‏

الإشارة إلى الكلام السابق في السورة كلها من أيْنَ ابتدأتهُ أصبت مراد الإشارة، والأحسن أن يكون للسورة كلها‏.‏

والبلاغ اسم مصدر التبليغ، أي هذا المقدار من القرآن في هذه السورة تبليغ للناس كلهم‏.‏

واللام في ‏{‏للناس‏}‏ هي المعروفة بلام التبليغ، وهي التي تدخل على اسم من يَسمع قولاً أو ما في معناه‏.‏

وعطف ‏{‏ولينذروا‏}‏ على ‏{‏بلاغ‏}‏ عطف على كلام مقدر يدل عليه لفظ ‏{‏بلاغ‏}‏، إذ ليس في الجملة التي قبله ما يصلح لأن يعطف هذا عليه فإن وجود لام الجر مع وجود واو العطف مانع من جعله عطفاً على الخبر، لأن المجرور إذا وقع خبر عن المبتدإ اتصل به مباشرة دون عطف إذ هو بتقدير كائِن أو مستَقر، وإنما تعطف الأخبار إذا كانت أوصافاً‏.‏ والتقدير هذا بلاغ للناس ليستيقظوا من غفلتهم ولينذروا به‏.‏

واللام في ‏{‏ولينذروا‏}‏ لام كي‏.‏ وقد تقدم قريب من نظم هذه الآية في قوله تعالى ‏{‏وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه ولتنذر أم القرى ومن حولها‏}‏ في سورة الأنعام ‏(‏92‏)‏‏.‏

والمعنى وليعلموا مِما ذكر فيه من الأدلة مَا الله إلا إلهٌ واحد، أي مقصور على الإلهية الموحدة‏.‏ وهذا قصر موصوف على صفة وهو إضافي، أي أنه تعالى لا يتجاوز تلك الصفة إلى صفة التعدد بالكثرة أو التثليث، كقوله‏:‏ ‏{‏إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد‏}‏ ‏[‏سورة النساء‏:‏ 171‏]‏‏.‏

والتذكر‏:‏ النظر في أدلة صدق الرسول عليه الصلاة والسلام ووجوب اتباعه، ولذلك خص بذوي الألباب تنزيلاً لغيرهم منزلة من لا عقول لهم ‏{‏إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا‏}‏ ‏[‏سورة الفرقان‏:‏ 44‏]‏‏.‏

وقد رتبت صفات الآيات المشار إليها باسم الإشارة على ترتيب عقلي بحسب حصول بعضها عقب بعض، فابتدئ بالصفة العامة وهي حصول التبليغ‏.‏ ثم ما يعقب حصول التبليغ من الإنذار ثم ما ينشأ عنه من العلم بالوحدانية لما في خلال هذه السورة من الدلائل‏.‏ ثم بالتذكير في ما جاء به ذلك البلاغ وهو تفاصيل العلم والعمل‏.‏ وهذه المراتب هي جامع حكمة مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم موزعة على من بَلّغ إليهم‏.‏ ويختص المسلمون بمضمون قوله‏:‏ وليذكروا أولوا الألباب‏}‏‏.‏